"معلمتي، ورقة الخريف" من زاوية أخرى
كتب المبدع الأديب والأستاذ "باباعمي محمد بن موسى" هذا المقال، والذي سلط فيه الضوء على المعلم والتلميذ بشكل أدبي رائع ولغة تتناسب ومقام الحكي ، وحتى بنية الخطاب التي وجّهت القارئ إلى قراءات مفتوحة، وأسالت حبر الكثير من المفكرين والباحثين في المجال الأكاديمي خاصة والأساتذة على وجه الخصوص، للخوض في تحليل هذه العلاقة الجدلية أو الروحية المتناغمة التي زالت وتقطعت نياطها وأمراسها كما تتقطع علائق القلب من شرايينه نتيجة مرض ما، فذبلت ثم جفت و تلاشت ، وأصبحت غير موجودة كأن لم تكن.
وبداية مع العنوان "معلمتي، ورقة الخريف" والذي يعتبر العتبة الأولى للدخول إلى النص، وكما "جيرار جنيت" في كتابه "عتبات" العنوان هو العمود الفقري للنص، هو المفتاح للدخول في بنية الخطاب السطحية والعميقة، وهنا إيحاء جميل وصورة بيانية ممزوجة بروح الكناية والتشبيه البليغ، الكناية تمثلت في اختيار الكاتب مكان الوصف اللامحدود و المطلق،والفضاء المفتوح أمام ساحة المسجد أي قوة التدبر في هذا الكون، وهو أيضا فضاء التلميذ: عقله وذكاؤه، دون حواجز وقيود من المؤسسة التربوية، وأما التشبيه البليغ هو المعلم الشجرة العتيدة المعروفة بالعطاء في فصولها الأربعة حتى يحين الحين وربما ليس الأجل، فصل الخريف تتساقط الأوراق الذابلة بعد عناء السنون منثورة هنا وهناك، لتتحول إلى مادة عضوية صالحة للتربة.
انطوى النص على الكثير من المحسنات البديعية منها السجع مثلا في قوله: "تذكرت ونظرت وركزت" و"زهو الخضرة يسبيهم، وجوههم، ولو غسلوا قلوبهم.."، بالإضافة إلى الجناس الناقص كـ"سخاء وسخاء، العلم والعمل"، والطباق في قوله: الجن والانس، ارتفعت وانخفضت"، حيث أعطت نغما موسيقيا وجسدت المعنى وقربته لذهن القارئ بلغة أدبية رائعة سلسة بسيطة تارة و معقدة تارة أخرى في نفس الوقت ، مشبعة بالنصوص القرآنية، مكتوبة بنمط الوصف ثم السرد الذي أعطى حيوية الانتقال بالأفعال من حدث لآخر دون ملل.
تحدث الكاتب في رسالته عن تبجيل وتعظيم دور الأستاذ مع تلميذه التوعوي والتعليمي، هي نظرة في قيمة الأستاذ داخل المنظومة الاجتماعية، وداخل الأسرة العلمية التربوية، ولا يتحقق إلا إن كان بالفعل هو المنشط والموجه الذي يهدف إلى تحفيز مهارات المتعلمين والمتمدرسين، الناظر إلى ما وراء الأشياء، المبدع في تقديم دروسه بأسلوب التعليم النشط باستعمال الألعاب والصور والفيديوهات وحتى الخرجات الميدانية التي تسمع لعقل المتمدرس التفكير خارج حيزه المعهود الرتيب الذي يعايشه كل يوم، كما يمكن اعتماد مقاربات تعليمية مغايرة لمناهجنا التقليدية من دول أخرى كألمانيا واليابان، والاستفادة من تجاربهم في التحصيل العلمي، و مواكبة عصر التطور الرقمي والتكنولوجي. وحتى الوقوف عند كل حالة تلميذ لم يستطع تفجير ذكاءاته المخفية، متجاوزا نظرة المعلم السطحية التي ألفناها سابقا بل متعديا ذلك إلى علاقة تشبه علاقة الأم بوليدها في شهوره الأولى وهي تنتظر بروز أسنانه كما ينتظر المزارع نمو براعمه الصغيرة التي ستتحول مع الأيام إلى زهور، يقول المفكّر المصري "موسى سلامة" في هذا المقام: "المعلم الممتاز هو ذاك الذي لا يقتصر على إيصال المعارف إلى أذهان تلاميذه، بل يضع لهم الخطط للدراسة بحيث يمكنهم أن يستغنوا عنه وأن يعلموا أنفسهم مستقلين مدى حياتهم"، إذا الأستاذ الحقيقي هو الذي يستطيع لعب أدوار مختلفة في دور واحد حتى يحقق كفاءة التعليم مع الطلاب.
سلط الكاتب أيضا الضوء على فئة أخرى من الأساتذة، المهتمين بالمظهر الخارجي بما يكسبه في آخر الشهر من مال. لقد هبط أستاذ اليوم من مرتبة الهناء وراحة البال الطاهر ، من عالم الجنة تحديدا إلى دركة الأرض الفانية إلى مرتبة الأستاذ الوظيفي فقط، المكتفي بتحميل سيل من المعلومات جاهزة وإعطائها لطلابه حملة العلم وبناة المستقبل، لقد انبهر بزخرفات العالم الخارجي وتفاصيله، ناسيا واجبه الحق، فغير مفهوم العمل التربوي داخل القسم وأصبح مجرد غرفة خاوية على عروشها، ليس لها روح، غرفة تسكنها الأشباح، تدخلها الشياطين لا الملائكة، لم يعد يسخر وقته لإضافة قبس نوراني في أذهان التلاميذ بل مجرد طابعة تطبع أشياء دون معنى وروح، متجاهلا كتلة المشاعر والأحاسيس وكمية الطاقة الفطرية الدّفينة التي خلقها الله فيه.
مهمة الأستاذ شبيهة بمهمة الأنبياء والرسل الصعبة الشاقة، ولكن طعمها حلو لا يزول، صدقة جارية غير منتهية الصلاحية، تصعد إلى عالم الروح و الكمال، طريق ينتهج سيرة الأولين، سيرة نبينا الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي نشر الرسالة وبلغ الأمانة ونصح الأمّة وحده في ذلك العالم، لا يملك قوة ولا سلاح، إلا مضاء العزيمة وقوة العقيدة في تبديل الشجرة ذات الفروع الممتدة وتحويلها إلى شجرة النور ، كذلك هو دور الأستاذ الذي يجب أن يسير على خطى الأنبياء والفلاسفة والعلماء وذوي الفكر والنخب، المتجدد في كل حين، لتحريك شيء ما وإنتاج أمة عالمة فاضلة راقية، وحتى لا ينطبق علينا قول ربنا "سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين"، فالله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا هم ما بأنفسهم.
لا يوجد تعليقات